الاثنين، 4 فبراير 2019

إيليّا النَّصيبينى (975-1046م)... صاحب "مجالس" المطران والوزير


سِيَر من التراث العربى المسيحى

13-    إيليّا النَّصيبينى (975-1046م)... صاحب "مجالس" المطران والوزير
عماد توماس


يعتبر إيليّا النَّصيبينى من ألمع شخصيات المسيحيين العرب الذين ظهرو فى القرن الحادى عشر، وهو معروف باسم ايليا بن السنّى (نقلا عن السريانية "بر شنايا") أو إيليّا مطران مدينة نصبيين



كان إيليّا النَّصيبينى، مع صديقه الكاهن عبد الله بن الطيب ، الطبيب والفيلسوف واللاهوتى والمفسر العلامة المتوفى سنة 1043م، ممن رفع لواء المسيحية فى أنحاء الشرق، ويعتبر من ألمع شخصيات الكنيسة المشرقية فى عصره، وإن لم يشتهر شهرة إبن الطيب لإهتمامه بالأمور الدينية أكثر من الأمور العلمية والفلسفية.

نشأته
يُخبرنا المطران لويس ساكو،  إن إيليّا النَّصيبينى ولد سنة 975م، فى مدينة السنّ القريبة من كركوك،  وترهب فى دير مار ميخائيل على ضفّة نهر دجلة الشرقية بجوار الموصل بالعراق.
رُسم كاهنا ثم رئيس كهنة فى سنة 994م. وصار أسقفا على بيث نوهذار -دهوك الحالية- عام 1002م، ثم مطرانا على أبريشية نَصيبين مركز مقاطعة بيث عرباى، سنة 1008م.

مؤلفاته
كتب إيليّا فى الأدب والعلوم والتاريخ والفقه واللاهوت والحوار المسيحى - الاسلامى. وتكشف كتبه عن عقل متحرر ونقدى. ومن أبرز كتبه على سبيل المثال كتاب "المجالس" أو الحوارات التى تمت مع الوزير أبو قاسم المغربىّ، الذى كان مثقفا منفتحا ومهتما بالحوار.

وإحدى الروايات التى تروى عن سبب إهتمام الوزير أبو القاسم بالحوار أنه فى إحدى رحلاته تعب وفقد الشهية، فنزل فى دير للرهبان بالقرب من ميافرين وطلب إلى راهب فى الدير أن يأتيه بقليل من الشراب، لكن معدته لم تقبله، فبادر الراهب إلى إعطائه شيئا من عصير الرومان ودعاه إلى تناوله كبركة. فتناوله الأامير وطاب، فعدّ هذا الشفاء معجزة يتحدث عنها اينما حلّ. فاحتار: كيف يكون النصارى مشركين وتحدُث مثل هذه الآيات فى أديارهم؟ فلا بد من أن هناك لبسًا فى الفهم !!

نشاطة الفكرى
ألف إيليّا النَّصيبينى أكثر من عشرة مؤلفات باللغة العربية، إضافة إلى ما وضعه باللغة السريانية. وعندما كان أبو الفرج، أمين سر البطريرك، كان من واجب آى مؤلف لأحد الكتب أن يرسل نسخة من مؤلفاته، ليوافق عليها باسم البطريرك، وهذا ما فعله إيليّا النَّصيبينى بتواضع، بعد أن حرر نص المجالس التى جرت بينه وبين الوزير أبى القاسم.

ويخبرنا الأب سمير خيل اليسوعى، فى دراسة قيمه له فى مجلة "المشرق" أن  إيليّا النَّصيبينى وجد فى المطرانية مكتبة عامرة، علمية ودينية، فظل يتابع نشاطه الرعوى والروحى، ولكنه لم يهمل النشاط العلمى، وسار على خطى الآباء الأولين، الذين كانوا رجال زهد ورجال علم فى آن واحد.

فاخذ يؤلف كتبا فى شتى الميادين، وله مؤلفات قيمة فى اللغة، والتاريخ والمنطق والعلوم والفلسفة. كما أن له مؤلفات أدبية أخلاقية روحية ممتازة. وكتابه فى تاريخ العالم ، الذى وضعه سنة 1019م باللغتين السريانية والعربية، كان من أفضل التواريخ المعروفة، حتى أعجب به إبن أبى أُصيبعة صاحب كتاب طبقات الأطباء.

ولكنه إعتنى إعتناءًا خاصًا بالدفاع عن الإيمان المسيحى دفاعا هادئا بعيدا عن روح المجادلات. فشرح عقائد المسيحية مثل (الثالوث ووحدانية الله والتجسد، وقانون الإيمان، والأمور الأخرى الفلسفية المرتبطة بالدين)، لصديقه الوزير أبى القاسم الحسين بن على المغربى، ومن خلاله لكبار المفكرين الذين كانوا يفدون إلى مجلس الوزير.

أسلوبه وحجّته
كان إيليّا إذا هوجم، لا يهاجم، بل يدافع عن عقيدته بدون تعصب أو مجادلة كما فعل عندما دافع عن العفة المسيحية اجمل دفاع ردا على رأى الجاحظ. ويكاد لا يخلو كتاب من كتبه من الطابع الدفاعى. وإن كان أسلوبه هادئا لينا، غلا أن أفكاره كانت دائما جريئة، بعيدة كل البعد عن الخوف أو التملق.
يؤكد المطران لويس ساكو، على أن أسلوب إيليّا النَّصيبينى، كان أسلوب مباشر على شكل سؤال وجواب، أجوبته عمومًا مقتضبة يعتمد فيها على الكتاب المقدس والقرآن الكريم والمنطق والجناس فى تقريب وجهة نظره إلى السائل المثقف. نستشف ذلك من خلال كتاب الشهير باسم "المجاس"

كتاب "المجالس"
نشره الأب لويس شيخو، فى مجلة المشرق البيروتية سنة 1922م، وحققه الأب سمير خليل . يخبرنا لويس شيخو، إن كتاب المجالس يحتوى على سبعة مجالس (حوارات) بينه وبين الوزير ابى القاسم عندما جاء إلى نَّصيبين وسأل مطرانها أن يشرح له المعتقدات النصرانية ففعل وكانت هذه المجالس كمحاورات دينية عاد إيليّا وكتبها وأرسلها إلى أبى العلاء صاعد، الذى كان أخا للمطران إيليّا واحد أطباء الوزير أبى القاسم.
ولما تسلم ابو الفرج نص المجالس السبعة ، تأمل موضوعها، ووقع عليها بخط يده قائلا : "قرأتها ودعوت لبقاء قدس أبينا المعظم (صلواته على العالم) وهى على الحسن والصحة والموافقة للكتب البيعية. ولا يمكن من يحب الحق أن يدفع لفظة منها). ثم أثنى على المطران إيليّا بثناء يفوق الحدود، بل فيه شئ من المبالغة.

المطران والوزير
 فى مقدمة كتاب "المجالس"، يطلب الوزير من المطران أن يدعو له الرهبان المتقدمين فى العمر ليساعده الله على أمور حياته. إلا أن إيليّا فاجأ صديقه الوزير برد جرئ وغير متوقع فقال له :

"إن الرهبان ليس يدعون للإنسان بأن يطيل الله عمره، ولا أن يوقر جاهه، ولا أن يكثر نسله. وإنما يسألون الله أن يصنع به ما له فيه الخيرة، وقع ذلك بموافقته أم لم يقع، وأن يُصلح نيته ويوفقه لطاعته. فإن بصلاح النيه والتوفيق، يكون صلاح الشأن وبلوغ الأمل. لأن الإنسان، إذا كان موفقا وجيد النية، ليس يؤمل ولا يتمنى إلا ما يبلغه ويصل إليه. ولم يتأسف عليه، إذا فاته تأسفا يؤلم قلبه. فاذا كان الوزير (أطال الله بقاءه) يقنع منى بذلك، تقدمت إليهم بمواصلة الدعاء له. فإن رام الأشياء الاخرى، فلا يُسوم القوم ما ليس بشائع عندهم.
فأجابه الوزير : إن الذى أريده وأتمناه ليس هو أحد أمرين : إما عز فى الغاية، وإما زهد فى الغاية. فأما الزهد، فليس أطمع فيه. لأن عادتى قد جرت بكثرة من يخدمنى، والزهد يحتاج أن يخدم نفسه. وهذا مما لا سبيل إليه. وأما العز فنفسى تهواه وتتمناه. ومع قلة طمعى فيه، لست أنا بمؤيس منه. وإذا كان الرهبان ليس يدعون للإنسان بما يتمناه من أمور الدنيا، فأريد أن يدعو لى بما فيه الخيرة. فربما كانت الخيرة مقرونة بضد ما أتمناه. وفى الخاتمة حقق المطران طلب الوزير بعد ان اجتمع مع الرهبان وتوارد جميعهم بالدعاء بأن يصنع الله ألى الوزير ما له وللناس فيه المصلحة الشاملة.

نهاية حياتة
توفى إيليّا فى 18 يوليو 1046م، فى الثانية والسبعين من عمره، ودفن فى كنيسة ميافرقين إلى جانب قبر شقيقة أبى سعيد المنصور. بعد أن دافع عن إيمانه أحسن دفاع.


نشر هذا المقال بجريدة الطريق - عدد فبراير 2019

للتكبير اضغط على الصورة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق