الاثنين، 4 مارس 2019


سِيَر من التراث العربى المسيحى
14-    عَمَّـار البَصرى...صاحب أول لاهوت نظامى بالعربية
عماد توماس


ليس لدينا معلومات كثيرة عن سيرة ومسيرة عَمَّـار البَصرى النسطورى وغير معروف تاريخ ميلاده أو وفاتة بدقة، لكنه ظهر في العصر العباسى، أوائل القرن التاسع، ومعظم المعلومات المتوفرة عنه موجودة فى مخطوطة يتيمة محفوظة بمكتبة المتحف البريطانى تحت رقم 801 من المخطوطات العربية. تحتوى على كتابان هما : كتاب البُرْهَان وكتاب المسائل والاجوبة والكتابان هما من جملة الأثار المسيحية التى سلمت من التلف على يد الأقباط فالناسخ القبطى خطهما عام 1298م فى الجودرية وهى من أحياء الدرب الأحمر بالقاهرة.


كان عَمَّـار البَصرى معاصرا للباحث المسلم أبو الهديل العلاف الذي توفي حوالي 840م والذي وفقا لفهرست النديم كتب كتاب ضد عَمَّـار البَصرى فى دحض المسيحيين ويُعد من أسبق المتكلمين فى الإسلام فى تفتيح موضوعات لم تثر بينهم من قبل. وكان أيضا معاصر للخليفة المأمون (813-833م) والخليفة المعتصم (833-842م).

لم يذكره لويس شيخو فى كتابه القيم "علماء النصرانيّة في الإسلام (622-1300م)" كما لم يذكره جورج قنواتى فى كتابه "المسيحية والحضارة العربية". أما سمير خليل، فذكره فى خمسة سطور فى كتاب "المسيحية وتاريخها فى المشرق"، باعتباره واحد من علماء اللاهوت الذين دافعوا عن الإيمان المسيحى. حيث أكد على إن عَمَّـار البَصرى "نسطوريا" مغمورا، ومؤلف لكتابين دفاعيين على جانب استثنائى من ثقابة الفكر. كان فيلسوفا وعالم لاهوت من الطراز الأول. اضطر إلى سبك مفردات خاصة به ليعبر عن فكرة جديدة، واكتسب الخطاب اللاهوتى العربى معه ثقلا نوعيا كبيرا. تطرق عَمَّـار البَصرى فى هذين الأثرين إلى مُجمل المسائل المتنازع فيها، كالعقيدة وعلم الاخلاق.

الاسم
يرى البعض إن اسمه ربما يكون إسمًا مستعارا، خوفًا من السلطان الحاكم لكننا لا نتفق مع هذا الرأى لسبب أن الأسماء العربية استخدمها المسيحيون ولم يجدوا غضاضة فى اتخاذها مثل : يحيى بن عدى. أما لقبه "البَصرى" فهو نسبة إلى مدينة البصرة، وهى عادة كانت منتشرة فى الأوساط العربية مثل : يحيى الدمشقى نسبة الى مدينة دمشق.

مدينة البصرة
البصرة فى العصر العباسى كانت ملتقى  الثقافة والعلم والتجارة وشيد فيها العباسيين العمارة الإسلامية من مساجد وصروح وكانت بعد بغداد تذكر من حيث الأهمية ومركزا للتجارة بين العراق والبلاد الأخرى.

أول لاهوت نظامى بالعربية
يعتبر ميشال الحايك أن عَمَّـار البَصرى أول  من أنتج علم لاهوت نظامي في اللغة العربية، ورغم أن محاورة البطريرك تيموثاورس الأول الذى ظهر فى النصف الثانى من القرن الثامن مع الخليفة المهدى تعتبر لاهوت نظامى لكن هذا الحوار ظهر أولا فى اللغة السريانية ثم ترجم لاحقا إلى العربية  فى العقد الأخير من القرن الثامن. ولا يمكن أن نتغافل أبو قرة وحبيب أبو رائطة التكريتى اللذان ينضمان إلى مدرسة اللاهوت النظامى فى طرح ومناقشة القضايا اللاهوتية مثل عمار وتيموثاوس. حتى وإن اختلفوا فى مذاهبهم المسيحية.

كِتَاب البُرْهَان
يرى ميشيال الحايك ان عَمَّـار البَصرى وضع كتاب " البُرْهَان" فى عام 838م وهى السنة التى فتح فيها الخليفة المعتصم عَمُورية فقد ذكر الحايك فى كتابه "رجل من الملوك فى دهرنا ...رحل عن مملكته بجميع جنده إلى الروم فى طلب إمراة من بعض الحصون" والمقصود المرأة التى صرخت قائلة "وأمعتصماه".
يحتوى كتاب البُرْهَان على عدة فصول يبدها بمقدمة في إثبات وجود الله، ثم يقدم براهين ودلائل على ما هو الدين الحق، ويضع أسباب لقبول النصرانية ويرد على شبهة تحريف الكتاب المقدس. ويقدم دفاعات مسيحية جدلية عن أهم أسس الإيمان المسيحى: الثالوث والإتحاد وإثبات التجسد وصلب المسيح. وهى إحدى سمات التراث العربى المسيحى كونه تراث دفاعى جدلى. ثم يتطرق إلى بعض القضايا الأخرى مثل : المعمودية والقربان والأكل والشرب في الآخرة.
والمدهش أن معظم القضايا اللاهوتية التى قام عَمَّـار البَصرى بالرد عليها فى العصر العباسى فى القرن التاسع، هى نفس الأسئلة المثارة اليوم فى القرن الواحد والعشرين!!

كتَاب المسَائِل وَالأجوبَة
يحتوى هذا الكتاب على (102) مسألة أو قضية جدلية قسمها ميشال الحايك فى تحقيقه للمخطوطة إلى:
المقالة الأولى: في اثبات قدم الله ووحدانيته وإثبات حدوث العالم. وفيه ثمانية وعشرون مسألة. المقالة الثانية : في اثبات الإنجيل المقدس. وهو أربعة عشر مسألة. المقالة الثالثة: في إثبات وحدانية الخالق بثلاثة أقانيم. وهو تسع مسائل. المقالة الرابعة: في سبب تجسد الكلمة وما يتبعه، في الإتحاد والموت والبعث. وهو إحدى وخمسون مسألة.
وعن وجود الله، يقول عَمَّـار البَصرى: "إن سأل سائل من أهل الجحود وقال: ما الدليل على حقّ ما قد قلتم من وجود الخالق، وعلى أن العالم مخلوق من صنعته؟ قلنا: الدليل على ذلك وجودنا. العالم دار مؤلفة من أركان متضادة ومتفاوتة، أعني الأرض والماء والنار والهواء. فأول دليلنا عليها أنها مصنوعة وأن لها صانع، ما نرى من تأليف هذه الأركان وإعتدال قواها مع إختلاف طبايعها وتضاد جواهرها... فهذه الأربعة الأركان التي منها أُلّفتْ دار العالم موجودة في بنية بدنك لا ينكرها عقلك. فلا دليل تحتاج إليه على وجود خالقك أوضح وأظهر من شواهد العقل من تأليفه بدنَك من هذه الطباع المتضادة المتقاومة وإنشائه بنفسٍ علاّمةٍ ركّبها فيه بقدرته وحكمته".

التفاهم المسيحى الاسلامى
شهد العصر العباسى انفتاحا كبيرا فى التواصل الحضارى بين المسيحين والمسلمين بل واليهود أيضا. وكان بيت الحكمة ملاذ آمن لكل اللاهوتيين المسيحيين وعلماء الكلام من المسلمين. وفي ذلك يؤكد وجيه يوسف فى كتاب "عَمَّـار البَصرى واللاهوت العربى"، أن الفكر الفلسفى اليونانى سواء المنقول حديثا إلى اللغة العربية، والموجود بالفعل فى تراث المسيحيين السريان، شكل أرضية مشتركة تلاقى عليها المسيحيون مع المسلمين. ونتج عن هذا الإحتكاك أن واجه اللاهوتيون المسيحيون أسئلة ما كانوا يألفونها من قبل، وبالمثل، وجد المتكلمون المسلمون أنفسهم أمام مُعضلات فلسفية كان المسيحيون الشرقيون متمرسين فيها بحكم معرفتهم الطويلة بالتراث الفلسفى اليونانى. لذلك جاء المسيحيون العرب أمثال عمار البصرى، بتعبير عربى أصيل عن اللاهوت المسيحى يأخذ بعين الإعتبار طبيعة المشكلات العقلية والنقلية التى طرحها المفكرون المسلمون. وكان لزامًا على اللاهوتى المسيحى أو المتكلم المسلم أن يعرف قرينة الآخر جيدا فى إعادة صياغة التعبير عن العقيدة، وكان الطرفان على درجة عالية من الحرص والإنفتاح. وما هو ما نحتاجه اليوم فى عالمنا العربى.

نشر هذا المقال فى جريدة الطريق - عدد مارس 2019



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق