الأحد، 1 سبتمبر 2019

20- أبى الفرج عبد الله بن الطيب... الفيلسوف الإمام


سِيَر من التراث العربى المسيحى
20- أبى الفرج عبد الله بن الطيب... الفيلسوف الإمام
عماد توماس


فى بغداد عاصمة الدولة العباسية فى أوج نهضتها الحضارية والعلمية، ظهر أبو الفرج عبد الله ابن الطيب فى القرنين العاشر والحادى عشر الميلادى. وهو طبيب وفيلسوف وكاهن مسيحى نسطورى من العراق. اختفى الوجه وضاعت صورته، مثله مثل صورة تنعكس معالمها على سطح المياة ولم يبقى منها إلا اسم وعمل، حافظ من خلالهما على شهرته بفضل العلم الذى إرتوى به على امتداد الأيام.


كان فيلسوفا وطبيبًا مطلعًا على كتب القدماء السريانيين واليونانيين. وكان كاتب الجاثليق (البطريرك) الياس الأول (1028-1049م) الذى كان من الأوائل الذين حاولوا جمع القوانين الكنسية النسطورية. ويعتبر ابن الطيب مع الياس برشنايا أعظم شخصيتين وألمع كاتبين فى عصرهما لما تركاه من ثروة فكرية طائلة للتراث السريانى والعربى ، بحسب شهادة للمؤرخ العراقى المسيحى يوسف حبى.

قال عنه القفطى فى "تاريخ الحكماء" : "عبد الله بن الطيب أبو الفرج الفيلسوف. عراقى فيلسوف فاضل مطلع على كتب الأوائل وأقاويلهم، مجتهد فى البحث والتفتيش وبَسط القول. واعتنى بشرح الكتب القديمة فى المنطق وأنواع الحكمة من تواليف أرسطوطاليس، ومن الطب كُتب جالينوس، وبَسط القول فى الكتب التى تولى شرحها بسطا شافيًا قصد به التعليم والتفهيم" .

وجاء ذكره فى "عيون الأنباء" لابن أبى أصيبعة : " أبو الفرج بن الطيب هو الفيلسوف الإمام العَلم أبو الفرج عبد الله . كاتب الجاثليق ومتميزا فى النصارى ببغداد ويقرئ صناعة الطب فى البيمارستان (المستشفيات) العضدى ويعالج المرضى فيه وهو من الأطباء المشهورين فى صناعة الطب. وكان عظيم الشأن. جليل القدر.واسع العلم، كثير التصنيف، خبيرا بالفلسفة كثير الإشتغال فيها...وكان معاصرا للشيخ الرئيس ابن سيناء، وكان ابن سيناء يثنى على كلامه فى الطب، وأما فى الحكمة فكان يذمه".  ربما لإختلاف فى الرأى، ولأن بن الطيب كان يميل إلى التطويل، ويؤكد على منطق أرسطو مثلما يرى يوسف حبى . ومن تلاميذه ابا الحسن بن بطلان والهروى .

ورد ذكره أيضًا فى كتاب "مسالك الأبصار" لشهاب الدين العمرى: " ومنهم أبو الفرج عبد لله بن الطيب كاتب الجاثليق..متوسعًا فى الحكمة ومصرًا على نصرانيته، معظمًا لأمور رهبانيته" .

حياته

ولد ابن الطيب على الأرجح فى بغداد حوالى سنة 980م ، وعاش في بغداد على أيام الخليفة القادر ( 991 – 1031 م ). والخليفة القائم ( 1031 – 1075 م ) من السلالة البويهية. تجمع المصادر على أن ابن الطيب هو واحد من أبرز رجال مدرسة بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي. وإنه عَلم من أعلام تلك المدرسة العريقة التي قدمت الكثير والكثير في زمانها. ويصفه الأب يوسف جزراوي بأنه "القسيس الفاضل والطبيب والمُعلم والفيلسوف الحكيم، اللاهوتي والمُشرّع القانوني والمُصنّف القدير والمترجم البارع" .
ودرس على يد ابن زرعة وابن سوار الخمار، فأصبح طبيبا وأستاذا فى البيمارستان العضدى الذى أسسه عضد الدولة وجمع فيه الأطباء والخدم والوكلاء والأدوية وكل ما يحتاج اليه. أتقن اليونانية والسريانية علاوة على العربية، وضع معظم كتبه بالعربية وبعضها بالسريانية، وكان مطلعًا على كتب الأوائل وأقاويلهم ومنهم فلاسفة اليونان وعلماؤهم .


نشاطه ومكانته
لم يقتصر نشاط ابن الطيب على فرع واحد من فروع المعرفة والعلم، بل شمل أكثر من جانب، على غرار موسوعى تلك الأزمنة العظام، مثل قسطا ابن لوقا وحنين ابن اسحاق،  فهو طبيب وفيلسوف، وفقيه، ومؤلف، ومترجم، ومفسر.

منزلة بن الطيب كبيرة، سواء فى تاريخ الطب والعلوم كما فى تاريخ فقه وأدباء كنيسة المشرق، علاوة على الفلسفة واللاهوت. فخصص له ابن أصيبعة والقفطى وابن العبرى فذلكة (خلاصة) أوردوا فيها شيئا عن حياته ونشاطه وآثاره، اعتبره مؤرخو كنيسة المشرق والأدب السريانى والعربى النصرانى من أكابر العلماء والمؤلفين .
مؤلفاته
ذكر ابن أبى أصيبعة فى "عيون الأنباء" أن أبا الفرج له العديد من كتب التفاسير لكتب أرسطو وأبقراط وجالينوس وعددها ثلاثون. وشرحه لثمانى مسائل لحنين بن اسحاق ومقالة فى المحبة وشرح الإنجيل . وله علاوة على كتب الطب، مؤلفات دفاعية ولاهوتية وأخلاقية .
صنف يوسف حبى، مؤلفاته إلى: الطب، الفلسفة، الفقه والتفاسير الكتابية، ومفرقات. كما نشر قائمة بمؤلفاته الأب جورج قنواتى فى كتابه "المسيحية والحضارة العربية" . ويضيق المقام هنا على سرد كل مؤلفات بن الطيب لذلك سنكتفى بالإشارة إلى أهم هذه المؤلفات:

1- المؤلفات الفلسفية
وأغلبها تفاسير لكتب أرسطو مثل  تفسير : المقولات، القياس، الجدل، الخطابة، الشعر، أما تفسير كتابه ما بعد الطبيعة (الميتافيزقيا). فيقول القفطى أن بن الطيب قضى عشرين سنة معنيا بتفسيره حتى مرض.

2- المؤلفات الطبية
وأغلبها تفسير لكتب أبقراط مثل : طبيعة الإنسان، المولودين لثمانية أشهر، وتفسير كتب جالينوس منها : فرق الطب للمتعلمين، الصناعة الصغيرة، النبض الصغير، المزاج، التشريح الصغير، علل الأعضاء الباطنية، الحميات، منافع الأعضاء، الحقن...إلخ

3- مؤلفاته فى الفقة والتفاسير الكتابية
مثل كتابه الأشهر "فقه النصرانية"، الجامع للقوانين البيعية والمجامع المغربية والمشرقية، ومقالة صغيرة عن الزواج، كتاب عن المواريث، وكتاب "فردوس النصرانية" وهى يحتوى على تفاسير الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، مطبوع في مجلدين ومترجم إلى الألمانيّة، ومخطوطة الكتاب موجودة بالمكتبة الوطنية بنابولي ويتكون من 256 ورقة.

وقدمت الدكتورة سلوى بلحاج، دراسة متعمقة لمنظومة الجزاء فى فقه المسيحية النسطورية من خلال كتاب ابن الطيب "فقه النصرانية". وقال الأب سمير خليل اليسوعى، أن أبي الفرج عبدالله بن الطيّب اعتمد على التفاسير السريانيّة، وله أيضاً تفسير كامل لسفر المزامير، وتفسير كبير للأناجيل الأربعة وقد طبع تفسير سفر التكوين، وتفسير الأناجيل وجزء من تفسير المزامير  .

 وجمع ابن الطيب نصوص الإنجيل الأربعة فى انجيل واحد ونسبت له ترجمة الدياطسرون، شرح الإنجيل بنصوصه الأربعة مستشهدا بيوحنا فم الذهب، ويعقوب الرهاوى وغيرهم وضعه بالسريانية وترجم إلى العربية ومجموعة مقالات بعناوين : الصوم، التثليث، التوحيد، مقالات فى الأصول الدينية، مقالة مختصرة فى الأقانيم والجوهر، مقالة فى التوبة.

وفاته
توفى ابن الطيب الرجل الحكيم المتواضع ربما سنة 1043م، وفقا للوقائع التى يذكرها لنا الكاتب صلبوا بن يوحنا (القرن الرابع عشر) وابن العبرى، أما تلميذه ابن بطلان فيؤكد أنه وقع ضحية وباء الطاعون الذى انتشر فى العراق سنة 1055م. وترك لنا ابن الطيب عددا كبيرا من تلاميذ مشهورين فى العلوم والطب والفلسفة مثل ابى الحسن البصرى وعلى بن عيسى وابن الاثرادى، وغيرهم.
بقى هذا الاسم وسوف يبقى محفوظا فى ذاكرة السريان مثل ذكريات موسم الصيف الساخنة فى قلوبهم وفى عقولهم .

كلمة أخيرة
هكذا أعزائى القراء سأتوقف بهذا المقال من هذه السلسلة، على أن تصدر قريبا بمشيئة الله فى كتاب مجمعة ومزيدة بسِيَر ومسيرة شخصيات مسيحية عربية أخرى موثقة بالمصادر والمراجع. فإلى أن نلتقى أتركك فى رعاية الله وأمنه.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق