الجمعة، 10 مايو 2019

16- قُسطَا بن لوقا ... صاحب الدليل الصحى الأول للحج إلى مكة (1-2)


سِيَر من التراث العربى المسيحى
16- قُسطَا بن لوقا ... صاحب الدليل الصحى الأول للحج إلى مكة  (1)
عماد توماس

إذا إعتبرت قسطا بن لوقا (820-912م) فيلسوفا فأنت لم تخطئ لكنه فيلسوف وأكثر، وإذا اعتبرته مهندسًا فأنت محق فى ذلك، فقد أسس لعلم الهندسة بكتابه " المدخل إلى علم الهندسة" ، أما إذا قلت عنه أنه طبيبا فهو بالفعل طبيبا ماهرا. ففى مضمار الطب وضع 55 مؤلفا استندت بصورة أساسية إلى جالنيوس وأبقراط، إلا أنه صاغها على نحو يتطابق وظروف الحياة السائدة فى العالم العربى. ولعل خير شاهد على ذلك كتابه " الرسالة فى تدبير سفر الحج" وهو نظام طبى للحجاج إلى مكة  كتبها لصديقه الأمير المسلم الحسن بن مخلد، قبل إعتزامه السفر إلى مكة لأداء فريضة الحج.


أما إذا قلت عنه أنه فلكيا فقد أصبت الهدف فقد ترك لنا العديد من المؤلفات فى علم الفلك منها : المدخل إلى علم النجوم وتركيب الأفلاك.

وإذا وصفته بالمترجم فهو يُعد من شيوخ المترجمين العرب. ذكره ابن النديم فى جملة النقلة من اللغات إلى اللسان العربى ووصفه بكونه فصيحا باللسان اليونانى والسريانى والعربى ونقل أشياء وأصلح نقولا كثيرة . وقام بترجمة نحو 18 كتابًا من اليونانية إلى العربية ويُوضع مع حنين ابن اسحاق فى نفس المرتبة بل يتعداه. فقد نقل قسطا إلى العربية شروحا عديدة للإسكندر الافروديسى ويحيى النحوى لكتاب السماع الطبيعى لأرسطو إلى جانب بعض الترجمات عن أرسطو. تذكر له المصادر بخاصة كتاب "تعاليم الفلاسفة" الذى نسب خطأ إلى أفلوطرخُس ومعناه بالعربية الأراء الطبيعية التى تقول بها الحكماء. وقد غدا هذا الكتاب أحد المصادر الرئيسة التى إتسع بفضلها إلمام العرب بالفلاسفة القدامى .

ليس هذا فقد، فقسطا ابن لوقا، لم يترك مجالا إلا وطرقه وبرع فيه، فكتب فى علم الفيزياء والكيمياء حتى السياسة والتاريخ وعلم الأخلاق والمنطق قام بتأليف وترجمة العديد من المؤلفات.

إذا نحن أمام شخصية فريدة ومتفردة فقسطا ببن لوقا : فيلسوفا منطقيا، ومهندسا رياضيا، وفلكيا، وطبيبا، ومترجما، وكيميائيًا وفيزيائيًا. وقد وصفه الأب سمير خليل بأنه "عبقريا فذا...يمثل نموذجًا يكاد يكون منقطع النظير بين سواه من علماء الآداب القديمة العرب فى القرن التاسع .

النشأة
قسطا بن لوقا فيلسوف رياضى، رومى الأصل .  بعلبكى المولد، نصرانى المعتقد، يونانى الثقافة، درس السريانية والعربية متعمقا وسافر إلى بلاد الروم فأتقن اليونانية والطب والفلسفة .  يعتقد البعض أنه نسطورى بينما يرى البعض الآخر أنه ملكَانى . وقيل: إن ولادته كانت سنة 820م . هو أحد مشاهير علماء الدولة العباسية . وكان يتقن اللغات اليونانية والسريانية والعربية. ومكنه إتقانه اللغة اليونانية من السفر إلى الإمبراطورية البيزنطية لمعرفة المخطوطات اليونانية وجمعها. عاد بعدئذ إلى سوريا، واستدعى معه سُريان آخرين كعبد المسيح الحمصى، إلى بغداد للترجمة من اليونانية إلى العربية وأحضر معه مخطوطاته. .

وقال ابن القفطى فى تاريخ الحكماء "انه فيلسوف شامى نصرانى فى الملة الاسلامية، ثم فى أيام بنى العباس، دخل إلى بلاد الروم وحصل على تصانيفهم الكثير، وعاد إلى الشام واستدعى إلى العراق ليترجم كتبا ويستخرجها من لسان اليونان إلى لسان العرب..." .

وردت إشارات عدة عن تاريخ وجوده في بغداد فى العصر العباسى: قال إبن جلجل: (كان في أيام المقتدر بالله ) ( 908 - 932 م)، وذكره إبن العبري: (في زمن المعتمد) (870 - 892 م)، في حين أورد بعض الباحثين أنه استدعاه الخليفة المستعين بالله إلى بغداد ( 862 - 866 م) . ووفقا لسعيد المغربى الأندلسى (1214 - 1286م) ، كان قسطا، على غرار يعقوب بن إسحق الكندى (فيلسوف الإسلام)، وثابت بن قرة الصابى، واحدا من الثلاثة الأكثر علمًا فى الفلسفة فى عصره .
ابتاع كتبا كثيرة عاد بها إلى بلاده فذاعت شهرته واستدعاه الخليفة المستعين بالله إلى بغداد وولاه ترجمة الكتب اليونانية. وقضى معظم حياته فى نقل العلوم وتنقيح ما نقل سواء عن اليونانية .

آثاره ومنزلته
كان قسطا متحققا بعلم العدد والهندسة والنجوم والمنطق والعلوم الطبيعية، ماهرا فى صناعة الطب . وصفه محمد بن إسحاق النديم  بأنه كان بارعا فى علوم كثيرة منها الطب والفلسفة والهندسة والأعداد والموسيقى لا يطعن عليه فصيحًا فى اللغة اليونانية، جيد العبارة بالعربية .
وقال عنه ابن النديم "كان يجب أن يقدم على حُـنين لفضله ونبله وتقدمه فى صناعة الطب، ولكن بعض الإخوان سأل أن يُقدم حُـنين عليه، وكلا الرجلين فاضل" .

تفوق قسطا فى ترجمة المؤلفات الطبية والرياضية والفلكية، وترجم كتبا فلسفية بعضها منحول، وأصلح ما ترجم معاصروه، وعلى الأخص، إسحق بن حُـنين من كتب فلسفية ورياضية، ونسبت إليه تأليف كتب فى علوم متنوعة. وكان ينازع حُنين بن اسحاق المكانة الأولى فى تزعم المترجمين، وقد عرف برشاقة الأسلوب ودقة العبارة، على إيجاز ووضوح...وحملت آثارة ترجمة وتأليفا طابعه الشخصى، ووصلت إلينا منها رسائل فى الطب، ومخطوطات عربية عليها تصحيحات بقلمه .

مؤلفاته
رصد صادق شاكر محمود فى دراسة قيمه له (81) كتابًا مؤلفا لقسطا وأكثر من (25) كتابًا قام بترجمتهم .  وأورد له ابن النديم من التصانيف ثمانية وثلاثون كتابًا، فيما ذكر له إبن أبي أصيبعة ثمانية وخمسون كتابا. ومن المتأخرين أورد له بروكلمان أربعة وعشرون كتابًا من مؤلفاته وأربعة عشر كتابًا مترجمًا، مع ذكر مخطوطاتها. وأحصى اسماعيل البغدادي والسامرائي له اثنين وخمسين كتابا في الطب وعلومه.  وذكر غيرهم أقل من ذلك في ترجمته .
فقد كتب فى الفلسفة كتببا عديدة منها : (الفصل بين النفس و الروح - المدخل إلى المنطق - نوادر اليونانيين - شرح مذاهب اليونانيين - في الجزء الذي لا يتجزأ الخ). وكتب فى الهندسة مثل : ( المدخل إلى علم الهندسة - في شكوك كتاب اقليدس - البرهان على عمل حساب الخطأين - في الألة التي ترسم عليها الجوامع وتعمل منها النتائج). وكتب فى الرياضيات مثل : ( الأوزان والمكاييل -في شكل الكرة والإسطوانة). وكتب فى الطب مثل : (علة الموت الفجأة - السموم  ودفع مضارها - في تركيب العين وعللها..الخ). وكتب فى علم الفلك مثل : (العمل بالكرة الفلكية - في النجوم - المدخل إلى علم النجوم - المرايا المحرقة). وكتاب فى علم الفيزياء هو "فى البخار"، وكتاب فى علم الكيمياء، هو "رسالة في الخِضَاب" "يستخدم لصباغة الأقمشة أو الملابس" وكتاب فى علم الأخلاق هو "مسائل في الحدود.. في علل ختلاف الناس في أخلاقهم". وكتابان فى السياسة هما : (فى السياسة - الاعداء)، وكتاب فى التاريخ هو "الفردوس في التاريخ"، وكتاب فى الزراعة : (الفلاحة الرومية).
فى العدد القادم سنخصص الجزء الثانى من مقالنا لعرض كتابه المهم "الرسالة فى تدبير سفر الحج" من خلال مخطوطة الكتاب.


نشر هذا المقال بجريدة الطريق - مصر - عدد شهر مايو 2019



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق