الخميس، 1 أغسطس 2019

19- عبدِ يَشوُع الصُّوباوى (+1318) مترجم الأناجيل المُسَجَّعَة


سِيَر من التراث العربى المسيحى
19- عبدِ يَشوُع الصُّوباوى (+1318) مترجم الأناجيل المُسَجَّعَة
عماد توماس

هو عبد يشوع بن بريخا المعروف بالصوباوى نسبة إلى صوبا أى نصيبين التى أصبح أسقفا عليها. عُين أولا أسقفا على سِنجار وبلاد العرب سنة 1285م إلى أن جعله البطريرك يابالاها الثالث رئيس أساقفة نصيبين وأرمينيا سنة 1290م، فأقام فيها حتى توفى سنة 1318م.


للصوباوى تاريخ مجيد ومؤلفات قيمة جعلته بين أبرز المؤلفين السريان، بحيث يجعله بعضهم ختمة المبرزين بين كتّاب السُّريانية قبل تراجعها. "فكان عالم أوانه وشاعر زمانه، حتى فضّله قوم على يعقوب الرهاوى وأبى الفرج بن العبرى، وآخرون يعدونه فى طبقة ملفان البيعة أفرام السُّريانى.

يذكر عنه لويس شيخو فى كتابه "علماء النصرانية فى الإسلام" أن الصوباوى للنساطرة بمنزلة ابن العبرى للسريان. وأوضح الدكتور بشير الطورى، الصفات العامه لشعر الصوباوى، بالتمكن العالى من اللغة السريانية وغيرته عليها، وإختياره الدقيق للألفاظ والكلمات والتلاعب بها، وقابليته على توليد الكلمات الجديدة والصيغ غير المتداولة. والوصف الجميل خصوصا فى إختياره الصور الشعرية من الطبيعة، بالإضافة إلى شفافيته ورقته وعذوبة شعره .

وقد حذا فى شعره جذو الشعراء العرب فى الجناس والتوشيح ولزوم ما لا يلزم، وغير ذلك من فنون البديع، فلذلك أتى شعره أحب إلى العرب منه إلى السريان.

نشاطه الفكرى
ترك لنا الصوباوى – كما يقول الأب لويس ساكو-  تراثا غزيرا من مؤلفات قيمه، فى اللاهوت والفلسفة، وتفسير الكتاب المقدس بعهديه، والليتورجية، والتاريخ والقانون، والمنطق والشعر. كان يتقن السريانية والعربية واليونانية. يقول عنه الأب جبرائيل القرداحى فى كتابه الكنز الثمين : " كان من الأئمة الأعلام فى علم الكلام والمنطق وصناعة الشعر والنثر السريانى والعربى، ومن الناس من يفضله على سائر شعراء السريان المتأخرين، وقوم يعدونه فى طبقة مار افرام من حيث فصاحة اللغة وفصاحة الشعر. ويقول عنه الأب بطرس نصرى " رُزق عبد يشوع نَصيبا من العلم والحكمة والبلاغة. وسمو المعان ولم يحزه أحد من زمانه .

أمانة الترجمة
فى تحقيقة ودراسته البديعة للأناجيل المُسجعة يصف سامى خورى، الصوباوى بكونه ليس دخيلا على صناعة الترجمة، فلا هو متطفل ولا دَعى، هو سليل شعب تمرس بهذا الفن منذ القرن التاسع، واشتهر عنه طول باعه، غزارة وتنوعا، ومقدرة واختصاص. كما أن الصوباوى عرف مدارس الترجمة واطلع على قواعد  كل منها، فتخير لترجمته كلام الإنجيل، ما يوافق قصده ، فاذا به يمعن فى الأمانة ويوغل فى تخير دقائق اللغة، ويكشف عن مكنون ما فى الألفاظ، ويقلب الجملة لتأتى أقرب ما يكون بأصل .

مؤلفات الصُّوباوى
سرد الصوباوى بنفسه جدولا فيه مؤلفاته ومنها : كتاب تفسير الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. الكتاب الجامع فى التدبير العجيب، كتاب الأشعار المسمى "فردوس عدن"، كتبه ليُيرى العرب غنى السريانية، وأن فى كتبهم ولا سيما مقامات الحريرى لا يتعذر على السريان الإتيان بمثله . كتاب مختصر القوانين المجمعية، كتاب الجوهرة فى حقيقة الإيمان، وهو بحث فلسفى لاهوتى، وكتاب الأسرار الغامضة فى فلسفة اليونان، وكتاب مدرسى لدحض الهرطقات، وكتاب الأحكام والشرائع الكنسية، وتراجم وخطب فى موضوعات متنوعة وشرح رسالة أرسطو العظيم إلى الإسكندر فى الصناعة الكبرى.

كل هذه المؤلفات تعكس لنا مدى نشاط عبد يشوع الفكرى وطول باعه واهتمامه الشديد بالعلوم الكنسية والمدنية فى مختلف فنونها وفروعها. وقد نالت هذه المصنفات حظا وافرا لدى الباحثين والمولعين بالعلوم السريانية من بنى السريان والمتعلمين للسريانية. ونشر قسم كبير منها إلى عدة لغات أجنبية بعد أن درست دراسه علمية مستفيضة .

وله مجموعة قصائد فى محبة الحكمة والعلم، وقصيدة فهرس فيها أسماء الكُتاب النساطرة، ووضع جدولا بمؤلفاتهم. ومما يدل على ثقافته الراجحة وتبحرة فى علم العقيدة والنواميس والتراث البيعى كتابه " مجموعة القوانين الكنسية".

وله فى العربية مؤلفات تدل على طول باعه فى لغة الضاد وحُسن تصرفه فى سهلها ووعرها، وقد وصلنا منها ستة كتب ذكرها جراف فى كتابه عن الآداب المسيحية العربية. ومنها مقالة فى "التثليث والتوحيد" وله "فرائد الفوائد فى أصول الدين والعقائد"، ألفه سنة (1312م) ذكره عمر بن متى فى "المجدل" ومنه نسخة فى مكتبة الكلدان فى بغداد.

كتابه "الجوهرة"
وضع الصوباوى كتابه "الجوهرة" باسلوب مشوق ولغة سلسة غير أنها صعبة، نظرا إلى الموضوع الفلسفى اللاهوتى، وفق منهج مدرسى موضوعى ...استعرض فى الكتاب عرضا شاملا للاهوت الرسمى لكنيسة المشرق فى مرحلته الأخيره وسماه "الجوهرة" لصغر حجمه وجودة فحواه وغزارته. يتناول الكتاب فى مؤلفه إثبات أن الله موجود وأن العالم محدث ومخلوق وزمنى ويقدم براهين عقلية ونقلية عن بدء الخليقة والتجسد والفداء وحقيقة المسيحية فى الإيمان بوحدانية الطبيعة الإلهية وأقانيمها الثلاثة، وأسرار الكنيسة والحياة الآخرة ، ويبرهن على كلامة متأثرا بفلسفة اليونان لا سيما فلسفة أرسطو .

الأناجيل المُسَجَّعَة
يبقى أن أشهر كتبه فى العربية وأنفسها هو ترجمته للأناجيل، بحسب قراءات الكنيسة النسطورية، "موزعة على الآحاد والأعياد والأصوام والذكارين" . فى ترجمته البديعة المُسجعة، يختار الصوباوى لكل كاتب للإنجيل ما يميزه من الصفات والنعوت.

فمتى هو "السابك للسنة الموسوية وباذر بذور الإيمان فى أراضى القلوب الإبراهيمية...ومقوم إعوجاج الأذهان الإسرائيلية". ومرقس هو " النائب فى تدوين البشارة المسيحية عن خليفة سيدنا المسيح...أحد السبعين والقائم فى منصب الإمامة السلحية مقام بطرس السليح" ولوقا هو " درايق الأخطية، لسان الحكمة السلحية، رئيس الأطباء...طبيب اللطائف والكتائف". أما يوحنا فهو "الناقل للأفهام إلى ضياء الروحانيات...ابن زبدى وأخو يعقوب...وهو الرسول المصطفى..يوحنا المودود صاحب سمعان الصفا" .

ويرى سامى خورى أن استعمال الصوباوى الكناية والتورية والتشبيه والإستعارة وما إلى ذلك من محسنات بديعية وبيانية، مما أفضى أحيانا إلى حشد لفظى وترادف كثير مع صناعة وتلكف، قد يمجد الآن ذوق العصر، ولكن كان هذا فى أوائل القرن الرابع عشر يمثل قمة الإبداع ويُحصى صاحبه بين القلة المختارة فى صناعة النثر. 

ترجمة الأناجيل
تقع هذه الترجمة فى 98 فصلا أو قراءة، يُضاف إليها 13 مناسبة. ترجمها عن البسيطة نزولا على رغبة البطريرك يابالاها. لكى تقرأ طقسيا ورسميا فى القداس. لذلك لم يترجم الصوباوى البسيطة فصلا فصلا بالترتيب، بل وضع ترجمته وفقا لمقتضى الكلندار الطقسى فى قراءات موزعة "على الأحاد والأعياد والأصوام والذكارين" .

وما أجمل أن نختم دراستنا هذه بأيات بينات لجزء من موعظة السيد المسيح على الجبل كما أوردها عبد يشوع الصوباوى مُسجعة :

وَمَتَى مَا صَليْتَ مُخَالِفًا عِصْيَانَا
لاَ تَكُنْ كَالمُنَافِقِينَ الْمُرَاقِبِين أَقَرانَا
الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْقِيامَ فِى الْمَجَامِع، وَزَوَايا الأَسْواقِ، مُتَخَيِّرِينَ مِنْهَا لِلصَّلاَةِ مَكَانَا
كَيْمَا يَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيَتَّخِذُونَهُمْ إِخْوَانَا
وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفُوا أَجْرَهُمْ، فَزَادَهُمْ ذَلِك طُغْيَانَا
أَمَّا أَنْتَ فَإذَا مَا صَلَّيْتَ، وَقْتًا مَا وَآنَا
فَادْخُل مُخْدَعَكَ، وَاغْلقْ بَابَك، مَا اسْتَطَعتَ إمْكَانَا
وَصَلِّ لأَبِيكَ الْخَفِىِّ كِتْمَانَا،
وَأَبُوكَ الَّذِى يَرَى مَا فِى الْخَفَاءِ، يُجَازِيك جَهْرًا نِعَمًا وَحَنَانَا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق