الثلاثاء، 2 يوليو 2019

أبو الفرج ابن العبريّ ...المتصوف العارف بالله


سِيَر من التراث العربى المسيحى
18- أبو الفرج ابن العبريّ ...المتصوف العارف بالله
عماد توماس

يعتبر التصوف جانبا مهما من جوانب الثقافة السريانية العريقة، وهو فرع من فروع علم اللاهوت ويُطلق عليه اسم اللاهوت النسكى أو الصوفى، أو علم كمال الحياة المسيحية. وهذا الكمال يسعى الناسك إلى بلوغه عن طريق الإستنارة ثم الإتحاد بالله.


والعلامة مار غريغوريوس يوحنا أبو الفرج المعروف بابن العبريّ (1226 ـ 1286م)، هو من أشهر من طرق هذا الباب بين علماء السريان. ويمتاز بمزجه الفكر العربي الصوفي بالفكر السرياني النسكي، ويظهر ذلك واضحاً في كتابيه "الايثقون" (علم الأخلاق) و"الحمامة" بالمقارنة بكتاب العلامة الشهير أبي حامد الغزالي (1058ـ1111م) "إحياء علوم الدين". فبين هذه الكتب علاقة أدبية قوية لا سيما في موضوع تنظيم الحياة الأدبية والروحية للإنسان، وفلسفة التصوّف.  وفى هذا المقال المبسط نستعرض سيرة ومسيرة المتصوف العارف بالله "ابن العبريّ" .

النشأة
وُلد ابن العبريّ في ملطية، عاصمة أرمينيا الصغرى، سنة 1226م. ونال في العماد اسم يوحنّا. واتَّخذ اسم غريغوار يوم رُسم أسقفًا سنة 1246م. أمّا اسمه الكامل فهو أبو الفرج جمال الدين مار غريغوار ابن تاج الدين هارون بن توما المَلطيّ. انتمى إلى أسرة عريقة في المسيحيَّة والشرف، وكان أبوه هارون طبيبًا عالمًا، وجيهًا في قومه، نافذ الكلمة في أهل بلده .
كان لهارون أولاد نجباء هم ميخائيل وموفَّق ودمنيا ويوحنّا (غريغوار) وبرصوم. ويبدو أنَّهم توفُّوا جميعًا قبل غريغوار، ما عدا برصوم الصفيّ الذي كان شمّاسًا لأخيه، ثمَّ خلفه على كرسيّ المشرق سنة 1288م، وظلَّ يشغل هذا المنصب حتّى وفاته في 1 من ديسمبر سنة 1307م  .

أصل تسميته
هناك رأيان من مسأله اسمه "ابن العبريّ" الأول: يرى أنه من أصل يهودى وأن آباه هو الذى تنصر وتحول إلى المسيحية، مستندا هذا الرأى إلى لفظة العبريّ  كدليل لذلك. وهذا الرأى نرى أنه ضعيف. وقد دحض ابن العبري هذه التهمة ببيت شعر قاله بالسريانية عن نفسه وهو: «إذا كان سيدنا المسيح سمى نفسه سامريا، فلا تخجلن إذا دعوك ابن العبري، فإن هذه التسمية صادرة عن نهر الفرات لا عن عقيدة معيبة ولا عن لغة» . فيما يرى الرأى الثانى -وهو الأقوى- أنه ولد من أبوين مسيحيين، بل وينحدر من أسره مسيحية عريقة، وكنى بابن العبريّ  لولادة أحد آبائه أو لولادته فى أثناء عبور نهر الفرات، أو لنزوح أبيه أو جده من قرية (عبرة) الواقعة على نهر الفرات قرب ملطية.
أحب "ابن العبريّ " العلم منذ نعومة أظافره، وشغف به أيما شغف، وأتقن اللغات السريانية واليونانية والعربية ثم الفارسية والأرمنية. وتبحر فى علوم : الكتاب المقدس، واللاهوت ، والتاريخ الكنسى والمدنى، والطب، والمنطق، والقانون، والبيان والنحو، والشعر وغيره من العلوم. وألف نحو 36 كتابًا تعتبر جميعها فى القمة مقامة وقيمة.

حداثته
لما بلغ "ابن العبريّ " الثامنة عشرة من عمره، جاء وأهله إلى أنطاكية فى سورية، فترهب، وفى هذه الفترة، اعتزل العالم واختبر فلسفة التصوف عمليا، وأخذ علم المعرفة الروحية، بمطالعة الكتب النسُكية، ورسمه البطريرك أغناطيوس الثالث أسقفا لبلده جوباس من أعمال ملطية عام 1246م وسُمى غريغوريوس، ثم انتقل إلى أبرشية لاقبين فأبرشية حلب.

وفى عام 1264م رسمه البطريرك أغناطيوس يشوع على المشرق مفريانا  - لفظة سريانية وتعنى "المثمر" وهو فوق الأسقف وأقل من البطريرك . فدبر كرسى المفريانية اثنتين وعشرين سنة بخوف الله وحكمته، متنقلا بين نينوى، ودير مار متى، والموصل. وبغداد ومراغة وتبريز. وأزدهرت على عهده ابرشيات المشرق الواسعة الممتدة وقتئذ من نَـصبيين حتى منتهى ما بين النهرين، وفارس، والقوقاس.

حظى "ابن العبريّ " بمكانته اللائقة لدى الرؤساء والعلماء، فكرموا فيه العلامة القدير، والبحاثة الشهير، والطبيب البارع، والشاعر المبدع، والخطيب المفوه، بل الرئيس الروحى الورع، والناسك الطاهر . كما حظى عند ملوك المغول لعلمه وكفائته ورفق سياسته، وتخير الرهبان الأنقياء الكفاءة فاقام منهم اثنى عشر اسقفا، وأنشا كنيستين وديرا وفلايتين للأساقفة وفندقا. وفى مكتبة مراغة وقف على الشروح الفلسفية باللغة العربية، وأحاط بتصانيف ابن سينا الطبية والفلسفية كلها فأخذ بها بعد فلسفة أرسطو وكان لها  فى مؤلفاته أثر بعيد. ثم درس اللغة الفارسية ومهر فيها ونظر فى الكتب النسكية على إختلافها .

موقف فاصل فى حياته
شغف المتصوف ابن العبريّ  منذ نعومة أظافره بمحبة العلم، وفهم الكتاب المقدس وتفاسيره، تعلم على يد معلم مبحر فى المعرفة، ولما بلغ العشرين من عمره تقلد رتبة الكهنوت، اضطرته الضرورة أن يجادل ذوى المعتقدات المخالفة من مسيحيين وغيرهم، مجادلات مبنية على القياس المنطقى والإعتراضات، إلا أنه بعد دراسته لهذه الإختلافات تيقن أن خصام المسيحيين بعضهم مع بعض لا يستند إلى حقيقة . بل إلى ألفاظ وإصطلاحات فقط. وأن الشعوب المسيحية كافة رغم إختلافها ظاهريا إلا أنها متفقة اتفاقا لا يشوبه تغيير أو شك. من هنا استأصلت الكراهية من أعماق قلبه. وترك الجدال العقائدى مع الناس. وعكف لمدة 7 سنوات على دراسة حكمة اليونان من المنطق والطبيعة والإلهيات والحساب وعلم الفلك وحركة الكواكب ورغم ذلك لم يجد ضالته المنشودة فى دراسة العلوم الخاصة والعامة . لكنه وجد ضالته فى الله الذى شدد ضعف ايمانه وانتشله من الهلاك والسقوط ليسير مع الله فى حياة إيمانية روحية.

رؤية المحبوب
عاش "ابن العبريّ " صراعا مع ضميره، فكان ضميره يؤنبه ويخبره أن كل ما لا يعرفه ليس بموجود. لأن ما يعرفه هو أقل بكثير مما لا يعرفه. وكان بشكوكه يعرج على الجانبين حتى أشرق عليه كالبرق شعاع نور خطف لا يوصف، فانفتحت عيناه التى كانت ملبدة بالقشور وأبصرت عيناه قليلا، وإنفك السياج القائم فى الوسط ورأى المحبوب غير المنظور لا بالظلام بل علنا .

معرفة الله
يرى "ابن العبريّ " أن معرفة العارف بوجود الخالق من وجود المخلوقات، والعارفون يعرفون الوهيته المعرفة الصحيحة، وأساس محبتهم وضُع على الصخرة، ولن تقوى عليه الشدائد، والإضطهادات، والسيف، والنار. وجميع الكائنات التى فى السماء وعلى الأرض تشير إلى وجود الخالق. فكثيرون لا يعرفونه لا لإحتجابه بل من كثرة ظهوره، يُغشى على العقل بنوره غير المحسوس، لأن العقل البشرى بالنسبة إلى النور الأزلى، هو مثل الخفاش بالنسبة إلى نور الشمس. فكما لو كان للخفاش قوة البصر التى للإنسان، كان يمكنه أن يتطلع إلى نور الشمس. هكذا العقل البشرى، فانه لو حصل على قوة عقل الملائكة كان بامكانه أن يرى النور الأزلى .

مؤلفات ابن العبريّ
كان ابن العبريّ  الى جانب ما اتصف به من التقوى والفضيلة عالما من الطراز الأول بين علماء عصره، فلم يترك فرع من فروع المعرفة وإلا كتب وألف فيه . قال السمعانى: " إن ابن العبريّ  منذ العشرين من عمره وحتى نهاية حياته لم يكف عن القراءة والكتابة" . ورصد البطريرك أفرام الأول برصوم ، فى كتابه "اللؤلؤ المنثور"، 35 مؤلفا لابن العبريّ ، منها : مؤلفات دينية: مثل : تفسير الكتاب المقدس، اللاهوت النظري، الشرع الكنسي والمدني، اللاهوت الأدبي ومؤلفات خاصة بالتاريخ المدني والديني: مثل : تاريخ الزمان (السرياني)، تاريخ مختصر الدول (العربي)، التاريخ الكنسي بالسريانية. بالاضافة الى مؤلفات فى قواعد اللغة السريانية، والفلسفة وعلم الفلك والرياضيات والشعر والطب وغيرها

انتقاله إلى جوار ربه
فى  ليلة 28 يوليو سنة 1286م، انتابته حمى شديدة وفي اليوم التالي وصف له الأطباء دواء رفض تناوله قائلاً: لا فائدة من ذلك لأن الأوان آن للانتقال من هذا العالم. ولازمته الحمى ثلاثة أيام... وأوصى تلاميذه على الثبات بالمحبة بعضهم مع بعض، وعدم التفرق حتى انطفأ نور المصباح الوهاج وسقط عمود الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الثابت المتين. وهكذا انتقل إلى جوار ربه ليلة 30 يوليو  من السنة 1286م. وكان في مراغة وحزن الناس عليه حزناً شديداً ولم يخرج أحد إلى عمله ذلك النهار وأغلقت الأسواق ولبس الناس ثياب الحداد، وقرعت أجراس الكنائس حزناً، ونقل جثمانه بعدئذ إلى دير مار متى بجوار الموصل .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق